ليس من السّهل الحديث عن مسرح “الحكواتي” دون العودة إلى انطلاقة الحركة المسرحيّة الفلسطينيّة الحديثة، تحديدًا بعد نكسة عام 1967، حيثُ كانت النّكسة حدثًا ثقيلًا مُخيّبًا لآمال الشعب الفلسطيني على وجهِ الخصوص، والعرب على وجه العموم، إلّا أنّ الفلسطينيّين سرعان ما ابتكروا أساليبَ مُتعدّدة لاستكمال نضالهم في مختلف مجالات الحياة، وكان على رأس هذه المجالات قطاع الثّقافة والفنون، الذي تميّز في تلك الفترة بالصّبغةِ الوطنيّة والسّياسيّة ذهابًا لتحقيق هدف من “أجل تحرير الوطن والإنسان”.
وقد ساهمت هذه الرّوح العالية في تأسيس ورفع الحراك الثّقافي ضمن مُعظم التّنظيمات السّياسيّة، فأصبحت “الدّائرة الثّقافيّة” جزءًا أساسًا ضمن كلّ تنظيم على حدةٍ، بالإضافةِ إلى تشكيل دوائر ثقافيّة ضمن نقابات العُمّال والمُعلّمين والطّبقة العاملة وفئات عديدة من المجتمع، ما أدّى وبشكلٍ سريعٍ وملحوظٍ، إلى تحوّل هذه الطّاقات الشّبابيّة إلى مجموعات وفرقٍ فنّيّة ومسرحيّة وموسيقيّة وفرق رقصٍ شعبيّ خاضت، فيما بعد، مسيرة الحركة الفنّيّة والمسرحيّة الحديثة وصولًا إلى يومنا هذا.
وفي مُستهلّ عام 1968، كانت الأمسيات الثّقافيّة تشمل مشاهدًا مسرحيّة مع مجموعة من الأغاني الوطنيّة وعددٍ من الرّقصات الشّعبيّة، أُطلقَ عليها حينذاك اسم “عمل فنّيّ مسرحيّ”، حيث كان هذا نموذجًا دارجًا لعرض الأعمال الفنّيّة. وقد استمرَّ هذا النّموذج بأشكالٍ مُختلفة حتى بداية عام 1970، حيثُ شهد النّموذج تغيّرات في الشّكل وأمسى العمل الفنّيّ يتبلور أكثر، ثُمّ تشكّلت العديد من الفرق المسرحيّة والفرق الموسيقيّة وفرق الدّبكة، والمُشترك أنّ التّوجه كان دائمًا قائمًا على المضمون الوطنيّ السّياسيّ، وكان العمل الفنّيّ أو المسرحيّ يحمل في طيّاته رسالةَ تحرير فلسطين، وكانت الأعمال في مُعظمها مُسيّسة.
شَهِدَ عام 1970 ولادة العديد من المجموعات المسرحيّة والفنّيّة، وبدأَ أعضاء هذه المجموعات يميلون إلى التّفرّغ للعمل الفنّيّ. وهُنا كانت بداية فرقة “بلالين” وهي من أوائل الفرق المسرحيّة، ومن ثمّ فرقة “بلا-لين ولين”، ومن ثمّ فرقة صندوق العجب في عام 1974. وقد تمّ، خلال هذه الفترة، إنتاج العديد من الأعمال المسرحيّة المُميّزة، التي كانت سببًا في إنجابِ كِبار الفنّانين المسرحيّين والموسيقيّين والرّاقصين الذين كانَ لهم الفضل في تأسيس الحركة الفنّيّة والمسرحيّة والتي ما نزالُ نعيش على خطاها حتى اليوم.
كانت هذه مُقدمة للتّمهيد لنشأة فرقة “الحكواتي”، التي تمّ تأسيسها في العام 1977 عبرَ لقاءٍ بين فرانسوا أبو سالم ومجموعة من الطّلبة الفلسطينيّين من الدّاخل المُحتلّ، والذين كانوا طُلّابًا في الجامعة العبريّة في القُدس ومجموعة من الشُّبان المقدسيّين. وكان من بين الأعضاء المؤسّسين من الدّاخل الفلسطينيّ عدنان طرابشة ومحمد محاميد وإدوارد معلّم، ومن القدس فرانسوا أبو سالم وجاكي لوبيك وطلال حمّاد وجميل عيد، وآخرون انضمّوا إلى الفرقة في مراحلها المتقدّمة. وقد أنتجت فرقة “الحكواتي” العشرات من الأعمال المسرحيّة، وقد انضمّ إلى الفرقةِ عشرات المواهب الفلسطينيّة من جميع أنحاء الوطن.
في ذلك الوقت لم يكن هُنالك أيّة مَسارح أو قاعات مُجهّزة، فكانت العروض في البدايات تُعقد في قاعات المدارس وقاعات السّينما وفي المؤسّسات والجمعيّات الخيريّة والنّوادي، وكانت كذلك، في معظم الأحيان، تُعقد في السّاحات الخارجيّة في المدن والقرى والمُخيّمات. وفي عام 1979 بدأت فرقة “الحكواتي” أوّل جولة عالميّة بمسرحيّة “باسم الأب والأُمّ والابن”، وهي مسرحيّة من إنتاج مسرح “الحكواتي” وإخراج فرانسوا أبو سالم، وتمثيل كلّ من إدوارد معلّم ومحمد محاميد وجاكي لوبيك، وطلال حماد وعدنان طرابشة وجميل عيد. وقد عُرضت في مهرجان الحمّامات الدّوليّ السّابع عشر في تونس عام 1980.
وفيما يلي، وللأمانة التّاريخيّة بحقّهم، سير ذاتيّة قصيرة وموجزة عن الأعضاء المؤسّسين لفرقة ومسرح “النّزهة الحكواتي” في الفترة ما بين الأعوام 1977-1990:
1. فرانسوا أبو سالم
جان فرانسوا لورون جسبار (أبو سالم)، من مواليد فرنسا عام 1951. حضرَ إلى فلسطين برفقةِ والده الدّكتور لورون جسبار في العام 1953. والدته هي الفنّانة الفرنسية فرنسين جسبار، ولهُ شقيق اسمه إسطفان وشقيقة اسمها بتريسيا عاشوا وكبروا في فلسطين. وقد حضرَ والده الدّكتور جسبار إلى فلسطين مُنتدبًا من الحكومة الفرنسيّة لتأسيس المُستشفى الفرنسي في بيت لحم في عام 1953، ومن ثمّ في القدس.
دَرَسَ فرانسوا أبو سالم المرحلة الابتدائيّة في القدس في مدرسة الفرير، وانتقل بعدها إلى بيروت لدراسة المرحلة الثّانويّة، ومن هُناك غادر إلى فرنسا إلى مدرسة المسرح في ستراسبورغ، ومن ثمّ انتقل إلى باريس وانضمّ إلى فرقة “مسرح الشّمس” في عام 1968، حيثُ عَمِل مع أريان مونشكين. بقي أبو سالم في فرنسا حتى العام 1970 وبعدها عاد إلى فلسطين وبدأ نشاطه المسرحيّ فيها وهو في سنّ 19 عامًا. وقد شاركَ في تأسيس العديد من الفِرَق المسرحيّة الفلسطينيّة في ذلك الوقت، من أهمّها فرقة “بلالين” و”صندوق العجب”.
كانت للعملِ الثّقافي في فلسطين، في تلك الفترة، حاجة سياسيّة وإنسانيّة ووجوديّة خاصّة. وقد بدأ العمل المسرحيّ السّياسيّ الذي جاء كردّة فعلٍ نضاليّة بعد هزيمة عام 1967. كان أبو سالم واحدًا من مجموعة كبيرة من المناضلين المثقّفين والفنّانين الملتزمين الذين قادوا الحركة الثّقافيّة والحركة المسرحيّة لكي تصل إلى ما وصلت إليه الآن. وممّا لا شكّ فيهِ أنّ الكثير من الشّباب الفلسطيني قد ساهمَ بذلك، إلّا أنّهُ ولولا وجود أبو سالم لَما كان المسرح الفلسطينيّ مسرحًا مُحترفًا كما عليه الحال اليوم في فلسطين، حيثُ لعب أبو سالم دورًا محوريًّا لإيجاد مسرح فلسطيني محترف ومهنيّ ومُبدع.
وفي عام 1977 أسس أبو سالم فرقة “الحكواتي” بعد لقائهِ مجموعةً من الشُّبان المقدسيّين، ومجموعةً من الشّباب الفلسطينيّ من داخل الخطّ الأخضر، الذين كانوا يدرسون في القدس. أنتجت فرقة الحكواتي عشرات المسرحيّات، وقدّمت مئات العروض التي تمّ عرضها محلّيًّا ودوليًّا، فرانسوا أبو سالم وفرقة “الحكواتي” كانوا يمثّلون سفراء لفلسطين في العالم، سفراء سياسيّين وسفراء ثقافة. وفي عام 1979 حضرَ إلى القدس مُنتج فرنسيّ وشاهدَ أوّل أعمال فرقة “الحكواتي” مسرحيّة “باسم الأب والأُمّ والابن”، وقام بتنظيم أوّل جولة للفرقة في أوروبّا، ومنذ ذلك الوقت، لم تتوقّف جولات وعروض فرقة “الحكواتي” إلّا مع وفاة فرانسوا أبو سالم.
في عام 1984 بادر بتأسيس أوّل مسرح فلسطيني في القدس حيثُ سُمّي مسرح “النّزهة الحكواتي”، واستمرّ بالعمل ضمن هذا المسرح حتى عام 1989، ومن ثمّ تركه مُضّطرًّا بعدَ خلافٍ كبيرٍ مع مجلس إدارة المسرح التي قرّرت الاستغناء عنه وعن فرقة “الحكواتي”. وبين الأعوام 1990-1995، استقرّ أبو سالم في باريس، وقدّم العديد من الإنتاجات المسرحيّة باسم فرقة “الحكواتي”، قبل عودتهِ إلى القدس حيثُ قدّم العديد من الأعمال المسرحيّة بقالبٍ جديدٍ، وبعدها كان يتنقّل كثيرًا بين فلسطين وأوروبّا لإنجازِ إنتاجات وأعمال مسرحيّة مُختلفة. وفي عام 2005 عادَ واستقرَّ مرّةً أُخرى في القدس وأنتج أعمالًا مسرحيّةً من أهمّها مسرحية “ملحمة جلجامش”، و”ذاكرة للنّسيان”، و”في ظلّ الشّهيد”، إلى أنْ تُوفّي مُنتحرًا في فلسطين في مدينة رام الله يوم 1 تشرين الأوّل 2011.
2. جاكي لوبيك
حَضَرت إلى فلسطين من الولايات المُتّحدة الأمريكيّة عدّة مرّات بين الأعوام 1970-1973. التقت بفرانسوا أبو سالم، وتزوجت منهُ وشاركته العديد من الإنتاجات التي كان يعمل عليها خلال تلك الفترة، ذلك إلى أنْ كان اللّقاء مع مجموعة طلبة في الجامعة العبريّة، حيثُ حينها أصبحت عضوةً مؤسِّسةً وأساسيّةً في فرقة “الحكواتي”.
شاركت لوبيك في جميع إنتاجات وجولات فرقة “الحكواتي” المحلّيّة والعالميّة بين الأعوام 1977-1990، وعملت في مُختلف المجالات الإداريّة، إلّا أنّها كانت أحد الأعمدة الأساسيّة في فرقة “الحكواتي” على صعيد فنّ تصميم الأزياء والتّمثيل، وفي مرحلةٍ لاحقةٍ، في مجال الكتابة. انفصلت عن فرقة “الحكواتي” في عام 1990، وأسّست في عام 1994 مع يان ويلمز مؤسّسة “أيّام المسرح”، وما زالت تُمارس نشاطها المسرحيّ، وتُعتبر من أهمّ الأشخاص الذين أسّسوا مسرح الشّباب في فلسطين.
3. إدوارد معلّم
من قرية معليا في الجليل الأعلى. كان طالبًا في الجامعة العبريّة في القدس، وانضمّ لفرقة “الحكواتي” مع أوّل عمل مسرحيّ لها “باسم الأب والأُمّ والابن”، ويُعتبر إدوارد معلّم من الأعضاء المؤسّسين للفرقةِ وللمسرح. عملَ كممثّلٍ، وكان رجل المهمّات الصّعبة، مثل المُحاسبة وبناء الدّيكورات وتركيب المنصّات الخارجيّة، وشارك بتنفيذ معظم أعمال التّرميم في مبنى المسرح عام 1990، وشارك في جميع إنتاجات وجولات فرقة “الحكواتي” المحلّيّة والعالميّة بين الأعوام 1977-1990. انفصلَ عن الفرقةِ وأسّس مسرح “عشتار”، وما يزال يعمل حتى الآن.
4. عدنان طرابشة
من قرية المغار الجليليّة. كان من مجموعة الطُّلّاب العرب في الجامعة العبريّة، وأحد مؤسّسي الفرقة في عام 1977. شارك طرابشة في جميع إنتاجات وجولات فرقة “الحكواتي” المحلّيّة والعالميّة بين الأعوام 1977-1982، وكان لهُ دورًا أساسيًّا في التّأليف الجماعي للأعمال المسرحيّة، وقد تألّقَ في عدّةِ أدوارٍ مسرحيّة خلال فترة وجوده حتى انفصلَ عن الفرقةِ وعاد إلى الشّمال. عملَ مع العديد من المسارح في الدّاخل كممثّلٍ ومُخرجٍ وكاتب، وأدارَ عدّة مؤسّسات ثقافيّة منها مؤسّسة مرايا، التي ما زالَ يعمل ضمن طاقمها حتى الآن.
5. طلال حمّاد
ناشطٌ ثقافيّ من مدينة القدس، وهو من روّاد الحراك الثّقافيّ والفكريّ الذي بدأ في بدايات السبعينيّات. انضمّ حمّاد إلى فرقة “الحكواتي” في عام 1977، شاركَ بمسرحيّة “باسم الأب والأُمّ والابن”، وشاركَ فرقة “الحكواتي” في الجولات المحلّيّة والعالميّة حتى عام 1982، حيثُ تركَ الفرقة وتوجّه إلى العيش في فرنسا، ومن ثمّ إلى تونس. لهُ عدّة مؤلّفات شعريّة، وهو من مؤسّسي دائرة الثّقافة في مكتب سفارة فلسطين في تونس وما زال يعمل ضمن طاقمها حتى الآن.
6. محمد محاميد
من مدينة أُم الفحم. كان طالبًا في الجامعة العبريّة، وانضمّ إلى الفرقة في نهاية السبعينيّات. شارك محاميد في المسرحيّات الأُولى للفرقة، حتى انفصل عن الفرقةِ وعاد إلى أُم الفحم عام 1982. عَمِلَ مدرّسًا بالإضافة إلى عمله في مجال المسرح في أُم الفحم، وله عدّة إصدارات عن الحركة المسرحيّة في فلسطين، وما زالَ نشيطًا في المسرح حتى الآن.
7. إبراهيم خلايلة
بلدة مجد الكروم الجليليّة. كان طالبًا في الجامعة العبريّة، وانضمّ إلى الفرقة في بدايات الثمانينيّات. شاركَ خلايلة كممثّلٍ في مُعظم إنتاجات وجولات فرقة “الحكواتي” المحلّيّة والعالميّة بين الأعوام 1980-1988. وعاد، في عام 1989، إلى مجد الكروم وعَمِلَ في مجال الثّقافة والمسرح مع المراكز الجماهيريّة هُناك، وله عدّة مؤلّفات مسرحيّة، وما زال يعمل حتى الآن.
8. داود كتّاب
من مدينة القدس. عَمِل في مجال الصّحافة في صحيفة الفجر باللّغة الإنجليزيّة. التقى كتّاب مع فرقة “الحكواتي” في بداية الثمانينيّات، وانضمّ إلى الفرقة وشاركَ في عمليْن هُما “محجوب محجوب”، ومسرحية “ألف ليلة وليلة من ليالي رامي الحجارة”. شاركَ في الجولات المحلّيّة والعالميّة، ثُمّ تَرَكَ التّمثيل واستمرَّ بالعمل مع الفرقة على أمور إداريّة وتنسيقيّة، ومع بناء المسرح كان لهُ دورًا إداريًّا إلى أنْ أصبحَ عضوًا في الهيئة العامّة والإداريّة حتى أواسط التسعينيّات.
9. راضي شحادة
من قرية المغار الجليليّة. التقى بفرقة “الحكواتي” من خلال جولة مسرحيّة “محجوب محجوب” في مدينة سخنين حيث كان يعمل مُدرّسًا للّغةِ العربيّة. كان لهُ نشاطًا مسرحيًّا كبيرًا في منطقة الشّمال وأعمالًا مسرحيّة مهمّة جدًّا. وفي عام 1982، تَركَ التّعليم وانضمّ إلى الفرقة، وشاركَ في معظم إنتاجات وجولات فرقة الحكواتي المحلّيّة والعالميّة بين الأعوام 1982-1988. وفي عام 1989 عادَ إلى قرية المغار حيثُ أسّس مسرح “السّيرة”، وما زال يعمل حتى الآن.